الرياضيات ودراستها بلا خوف

هل يمكن دراسة الرياضيات المخيفة سؤال مهم ؟


لطالما كانت الرياضيات مُرعبة، حتّى إن البعض قبل لحظات قليلة من امتحان الرياضيات يقف مرتبكا في إحدى الزوايا ليقرأ القرآن ويدعو الله أن يُخفّف من ثقل هذا الامتحان الدسم، بينما كان البعض الآخر يتأخر في النوم قدر الإمكان لكي لا يُعاني من تلك اللحظات التي تسبق الامتحان، في الفيزياء كان الشيء نفسه يحدث للأسباب نفسها، وفي المرحلة الثانوية كان ضحايا الرياضيات والفيزياء هم الأكثر انتكاسا من رفاقهم في مواد دراسية أخرى، في كل مكان وُجدت به الرياضيات يوجد الخوف.

حسنا، ربما لا تعرف ذلك، لكن تلك الحالة لها اسم وهو “رهاب أو قلق الرياضيات” (Math Anxiety)، ليست مرضا بالمعنى المفهوم، لكنها حالة من القلق الذي يتميز بالاضطراب والتوتر في مواجهة الرياضيات، سواء كانت أسئلة في الامتحانات أو الوجود في درس الرياضيات نفسه أو حتّى بمجرد التفكير في الرياضيات، يؤدي ذلك إلى سلوك سلبي تجاه الرياضيات، ما يعني تجنّب كل ما يتعلق بها قدر الإمكان، وقد يؤدي ذلك بالتبعية إلى انخفاض مستوى الشخص في الرياضيات، فيفقد ثقته في قدراته على أداء العمليات الرياضية حتّى لو كان ذكيا بطبعه.

الرياضيات في المنزل

في حديثها مع “ميدان”، تقول إيلين بيترز، أستاذة علم النفس من جامعة أوهايو: “حينما نفقد الثقة في قدرتنا على أداء العمليات الحسابية، فإن ذلك يؤثر بقوة على أدائنا للمهام المالية والطبية الخاصة بنا، والتي تحتاج إلى بعض المهارات الرياضية الأساسية لإنجاحها”. في الواقع، تُشير بيترز إلى نقطة مهمة لا نلتفت لها كثيرا في حياتنا اليومية، فنحن نربط بالأساس بين قدراتنا في الرياضيات والنتيجة التي تظهر آخر العام الدراسي، لكن ذلك غير صحيح.

في التجارب الخاصة بها، والتي نشرت نتائجها مؤخرا في دراستين منفصلتين بمنشورات الأكاديمية الوطنية للعلوم (PNAS)، حاولت بيترز الربط بين قدر ثقة الشخص في قدراته على أداء المهام الرياضية وقدراته على إدارة شؤونه المالية والطبية، خاصة في بعض الحالات المرضية التي تتطلب الكثير من العمل على تنظيمها مثل الذئبة الحمراء، وهو مرض قاسٍ يحدث عندما يهاجم الجهاز المناعي الأنسجة والأعضاء الخاصة بنا.

في هذا السياق توضح أستاذة علم النفس لـ “ميدان” أن: “بعض المهام الحياتية تحتاج إلى درجات من الإصرار والثبات، نحتاج إلى تكرارها مرارا حتى وإن كانت مثيرة للقلق والتعب”، مضيفة أن الأشخاص الأكثر ثقة في قدراتهم الرياضية أكثر عُرضة للاستمرار في تلك المهام الصعبة. على سبيل المثال، في حالة الإصابة بمرض عُضال فإن المريض في حاجة دائمة إلى التعامل مع الأدوية، فهم مخاطرها وفوائدها، كذلك فهو في حاجة إلى ضبط اختياراته في التأمين الصحي ومصاريف العلاج ومواعيد الذهاب للأطباء وتغيير نمط الحياة، تساعد مهارات الرياضيات في تلك النقطة.

من جهة أخرى، فإن هناك حاجة دائمة إلى المهارات الرياضية في تنظيم أمورنا المالية، دفع الفواتير وتوزيع النفقات على المتطلبات المادية، بداية من احتياجات المتجر مرورا بتمارين الأطفال ودروسهم وكتبهم ثم دفع الضرائب وتنظيم المعاملات الحكومية وصولا إلى محاولاتنا للادخار من أجل المستقبل، يحتاج كل ذلك إلى مهارات رياضية قد تكون مُتقدِّمة في بعض الأحيان من أجل تنفيذ خطة قوية كفاية لضبط حركة النقود في حياتك.

رياضيات أقل.. نقود أكثر

لذلك ربما قد تتفاجأ من نتائج تجارب بيترز، والتي جاءت لتقول إن هؤلاء -من ضمن عينة مقدارها نحو خمسة آلاف شخص- الذين حصلوا على الدرجة النهائية في اختبارات الرياضيات التي أجرتها لكنهم كانوا أقل ثقة في قدراتهم الرياضية فقدوا ما مقداره 94 ألف دولار من دخلهم السنوي مقارنة بالحاصلين على النتائج نفسها لكنهم كانوا أكثر ثقة في قدراتهم على أداء العمليات الرياضية، هل ترى ذلك؟ المجموعتان تمتلكان القدرات نفسها، لكن المجموعة صاحبة “رهاب الرياضيات” فقدت كل ذلك المبلغ، فقط لأن أفرادها لا يثقون كفاية في قدراتهم، وهذا ما أكدته لـ “ميدان” بقولها: “إذا لم تكن واثقا في قدراتك الرياضية، فإن كل رياضيات العالم لن تنفعك!.

الأمر إذن لا يتعلق بقدرات الواحد منّا على أداء الرياضيات، قد يكون طالبا ذكيا، لكنه لسبب ما يضطرب في وجود الرياضيات بمحيطه، يعتقد بعض الباحثين أن هذا الأمر قد يكون متعلقا بجوانب وراثية، حيث كان فريق بقيادة تشي وانج من جامعة أوهايو، قبل عدة أعوام، قد استخدم مجموعات من التوائم لفحص درجات تشابههم في معايير الرهبة من الرياضيات، ما قد يعني أن الأمر وراثي لأن التوائم المتشابهة قريبة في تركيبها الجيني من بعضها بعضا.

لكن النتائج الخاصة بتلك الدراسة جاءت لتقول إن نسبة وجود العامل الوراثي لم تتجاوز 40%، ومع عدم وجود الكثير من الدراسات التي تفحص تلك الحالة تحديدا فإن هذه النسبة مرشحة للانخفاض، وبالتالي فإنه يمكن للبيئة والظروف المحيطة أن تكون صاحبة أثر كبير، بداية من ظروف الولادة وصولا إلى طريقة التربية، وكانت هناك بالفعل إشارة سابقة إلى أن الآباء الذين يعانون من رهاب الرياضيات قادرون على تصدير المشكلة نفسها إلى أطفالهم، الأمر مقبول في إطار أن رهاب الرياضيات يدفعك لتجنّبها قدر إمكانك، ما يعني إهمال أطفالك في تلك الناحية، وبجانب نقل هذا النوع من الخوف لهم فإنهم قد يتأثّرون.

والمشكلة التي نواجهها هنا هي أن هذا الرهاب المبكر من الرياضيات، إذا بدأ من سن صغيرة، يمكن أن يتضخم مع الزمن، ويظهر ذلك في موقف الطلاب تجاه الرياضيات، فيتجنّبونها، وفي النهاية تقل كفاءتهم فيها كلما ازدادت أعمارهم، يشبه الأمر ما يُسمى بـ “تأثير كرة الثلج”، ويعني أنك إذا أوقعت كرة ثلج صغيرة من أعلى الجبل فإنها تجمع الثلج حولها كلما نزلت للأسفل فتصل للقاعدة بحجم وزخم هائلين، كذلك رهاب الرياضيات، يبدأ صغيرا ثم قد يصل إلى أوْجه في سن الجامعة وما يتلوها، وكلما تفاقمت المشكلة أصبح حلها صعبا، لكنه ممكن، بحد تعبير بيترز في حديثها مع “ميدان”، رهاب الرياضيات هو أمر يمكن التعامل معه.

ما علاقة الكتابة بالرياضيات؟
  
أحد الحلول -من وجهة نظر بيترز- هو العمل على تحفيز الناس، سواء كانوا طلابا في المدرسة أو الجامعة أو أشخاصا عاديين، ناحية “تأكيد القيم” (Values Affirmations)، وهي تقنية نفسية يقضي الخاضع لها وقتا كافيا في مهام تتعلّق بإدراك قدر سلامة موقفه وجاهزيته للعمل على مشكلة ما وتحسين صورته عن ذاته، ترى الكثير من النظريات في نطاق علم النفس الإكلينيكي أن تلك التقنيات التي تتعلّق بتأكيد الذات تُفيد بشكل فعّال في تجاوز الكثير من أنواع القلق والمشكلات السلوكية المتعلقة به، وعلى مستوى الطلاب قد يكون ذلك فعّالا بشكل واضح.

من جهة أخرى ترى بيترز، أن إحدى أفضل الوسائل لهذا النوع من تأكيد القيم هي الكتابة التعبيرية (Expressive writing)، أو الرسم بالنسبة للأطفال، وهي طريقة تعمل على تحويل المشاعر والرغبات إلى كلمات أو رسوم على ورق، للوهلة الأولى يبدو الأمر بسيطا لدرجة تدفعك للظن أنه غير مؤثر، لكن الالتزام ببرنامج مستمر للكتابة التعبيرية قد يكون له أثر غير مسبوق في تطور مشكلاتك مع الرياضيات مع الوقت، بحسب الكثير من الدراسات في هذا النطاق.

تضيف “بيترز”: “يضع ذلك تأثير كرة الثلج في اتجاه آخر”، مشيرة إلى أن عملية “تأكيد القيم” كانت قادرة، في تجارب سابقة لها، على التخفيف من خوف الطلاب تجاه الرياضيات، مما أدّى إلى تحقيق نتائج جيدة في تقييمات تلت ذلك بفصل دراسي كامل، بالتالي يفتح ذلك الباب لأُلفة متنامية مع الرياضيات تكبر مع العمر، وكأن كرة الثلج هنا تعمل في اتجاه تحسين قدراتنا في الرياضيات مع الوقت.

في تلك التجارب، أُخضع أكثر من 200 طالب لمساق رياضيات، وخلال المساق تعرّضت مجموعة منهم لجلستّيْ “تأكيد قيم”، والفكرة أن يأخذ كلٌّ منهم ما مقداره 10-15 دقيقة ليكتب مجموعة من ست قيم خاصة به يؤمن بها، أشياء كالعلاقة مع العائلة والأصدقاء، والقيم الروحية، والقيم الدينية، واهتمامه بالعلوم، والسعي وراء المعرفة، ثم طُلب إلى كلٍّ منهم تصنيفها في الأهمية بالنسبة لهم، بعد ذلك طُلب إليهم كتابة موضوع عن القيم التي أعطوها أقل درجات، ثم الإجابة عن سؤال: لِمَ قد تكون تلك القيم ذات أهمية أكبر بالنسبة لأشخاص آخرين؟ جاءت النتائج لتقول إن هؤلاء الذين خضعوا لعملية تأكيد القيم أظهروا تحسنا واضحا في التعامل مع الرياضيات.

“يتعلق الأمر بمقدار الثقة في مهاراتك الحسابية” هكذا أكدت لنا بيترز، مضيفة أن ذلك قد يكون ذا تأثير عكسي حينما نستخدمه لرفع ثقة الأشخاص عن قدراتهم في الرياضيات فوق قدراتهم الحقيقية، لأن تأثير ذلك قد يكون سيئا على حياتهم، بسبب أنهم سوف يرتكبون أخطاء دون أن يعلموا ذلك. لكن في النهاية، فإنه يمكن التعامل مع رهاب الرياضيات وتخفيف أثره، ما قد يساعد بقوة على تحسين حياتنا مستقبلا، الأكاديمية والعامة.

العقول المتحجرة

الفكرة إذن هي أن ندرك أن هناك مشكلة، ينبع نجاحنا في التعامل مع مخاوفنا من الرياضيات من قدراتنا على الفصل ثلاثة عوامل، أفكارنا خاطئة (الرياضيات صعبة، لا بد أنك ستفشل) ومشاعرنا التي تُبنى عليها (الخوف) والتي تؤثر مباشرة على سلوكنا (لن أذهب إلى درس الرياضيات اليوم)، وما إن تبدأ بإدراك المشكلة ستقوم شيئا فشيئا بالتغلّب على تلك الأفكار، أو على الأقل إهمالها والاستمرار في العمل على تحسين مستواك على أية حال، لأنك بت تعرف أنها مجرد أفكار لا علاقة لها بالواقع.

Scroll to Top